مصطفى المخلافي

في ذكرى مرور واحد وثلاثون عاماً على ولادة الديمقراطية في اليمن، نقف دقيقة صمت وحزن لقائد ملأ الدنيا وشغل الناس وكان واجهة رئيسية يُعلق عليه المواطنين طموحاتهم التجديدية وهموم أرواحهم العالية، وحلمهم النبيل كما لم يعلقوها على قائد عظيم من قبل.
نعيش في هذه اللحظة مأساة رحيل الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح، صانع الديمقراطية والوحدة، وصاحب العهد الذي نبكيه، نستذكر في هذه المناسبة العظيمة، قائداً فذاً ربما لم يطاولهُ في زمانه أحد، نحس معه بدفق الحب الذي مُنِحنا إياه في عهده، وننظر إلى واقعنا اليوم وإلى اللمعان الذي تركه كبكاء الذهب الذي خلفه صالح الشهيد، صالح ذلك الطائر الغريب الملون السحري الخارج عن سربه، نرى إليه بلغته الحميمية التي تركها في أذهاننا الغضة كما يترك المسافر مِعطفهُ على شماعة البيت، الحميمية التي جسدها صوته وهو على عربة الموت بعد محاولة اغتياله في مسجد دار الرئاسة، فندهش الجميع من صدى خلوده الذي لايزال يُحرك أطياف الذاكرة ويملأ الوجدان.

قليلون هم القادة العرب الراحلون الذين يتركون بصماتهم بقوة وصلابة على المشهد السياسي ونستشعر غيابهم الاضطراري بكل هذا الشوق وهذه الخسارة والحسرة التي تغزل أيامنا بمكر.

قصتي مع الشهيد علي عبدالله صالح بدأت في حدود عام 2006م أيام الانتخابات الرئاسية، وقد سبق هذا التاريخ أول عرس ديمقراطي أسسه صالح في 93، قرأته حينها في لحظة اعتزاز ممسوحة بشمس سبتمبرية، وكم أعجبتني إنسانيتهُ المتفردة التي أثرت بي كثيراً حينذاك وشدتني نباهته الفريدة المنتمية إلى رأس حكماء العرب قديماً، كم أعجبني صالح حينها بإنسانيته وصفاء قلبه مع خصومه وقوة عباراته المنحوتة من صخر عيبان ونقم، ولا أزال أتذكر ذلك المقطع من خطابه بعد إعلان نتائج الانتخابات وفوزه وهو يقول، ” لن أكون بعد اليوم مظلة للفساد ” ليدون بعد هذا الخطاب خصومه ” كتاب الموت” لتصفية صالح.

كان الشهيد علي عبدالله صالح شخصية فريدة لا تشوبها شائبة، وهو في نظري أعظم قائد عربي، وهو رغم الأزمات والعراقيل والفتن التي تعرض لها هنا وهناك، يظل قائداً له وزنه وقيمته الاستثنائية، وكم نظرت إليه بقداسة على لحظات سُجلت له على قناة ” اليمن اليوم” قبل رحيلة بدقائق، ولا أعتقد أن قائداً ترجل خيل الموت بثبات ووثق لحظات حياته الأخيرة وتوديع شعبه ومحبيه كما فعل الشهيد صالح.

صالح الذي له مدرسته السياسية الخاصة به، والتي أغنت الكثير من رواد مدرسته وحتى هذه اللحظة، ورغم كتابة مئات التحليلات عنه وعن حقبته وتاريخه، وعن تأويلات استشهاده والأطروحات الجامعية، والكتابات النقدية لخصومه، لا يزال عصي وعنيد على الريح ونار النقد.

أظن بأن الذين كانوا يتهمون الشهيد علي عبدالله صالح بمثل هذا الاتهام الخطير والغير منطقي بـ “الديكتاتوري” قد تراجعوا وهم يشاهدون الإمامة الرجعية والخلافة التكفيرية تشوه صور الديمقراطية التي رعاها ونماها وحماها صالح، أو تكشفت لهم الحقيقة بأن جمرة خطابات وتحذيرات صالح من مغبة الوقوع في هذا السيناريو باقية في كل العصور، وهي أعني الخطابات المُحرك الأول والأخير لمشاعر الناس وهي الوقود لكل تطلع للحرية قبل أن تكون شاهد حي لصدق ونوايا علي عبدالله صالح.

في ذكرى الـ 27 من أبريل، أصبحنا في زمن لم يَعُد يُسأل فيه القاتل لماذا قتلت؟ بل يُسأل فيه المقتول ماذا فعلت؟ فالأسئلة عن القاتل تموت بموت الضحية. هذه صورة مصغرة لليمن بعد الشهيد صالح.

وبعد كل هذا، أليس من البؤس الفكري أو ربما من الجنون المطلق أنه مازال هناك من يؤمن بـ ” الإخوان والحوثي” الآيلين إلى رماد بعد كل الفظائع التي ترتكبها عناكبهم السوداء باسم الحرية وباسم الله والدين وأئمتهم الهمجيين؟! فلا بأس لو انتظرنا الغيث مائة عام أو يزيد على أن نركع أو نسلم لهاتين الجماعتين.

وأخيراً وفي رثاء ذكرى الديمقراطية

يتلاشى الضباب أمامي، ضباب الحياة، وضباب البشر، وضباب الموت، ويبقى الزعيم السبعيني الشامخ بابتسامته الوديعة كحمامة سلام، يبقى صالح مطلاً علينا من حدائق الشمال عالياً زاهياً راسخاً، وشامخاً فكراً وروحاً لغةً وعاطفة في الجنوب، يزداد رهبةً في نفسي، في خضم هذا الاهتمام الشعبي الكبير بصالح وذكرياته، والإجماع على عُلو قامته وهيبته، أخفض رأسي وقلبي لريحان يديه، وأبعثُ له من ضفاف النيل الذي يحبُ، ومن. أعالي روح تعز اليتمية ألف قُبلةِ.

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *