أنور العنسي

نغيب عن مصر طويلاً حد الاعتقاد بألاَّ عودة مجدداً إليها ، ثم لا نلبث أن نعود إليها  كأن ذلك الغياب لم يكن.

وتنأى مصر عنا حتى نظن “كل الظن ألاَّ تلاقيا” لكن مصر لا تلبث أن تستعيدنا إليها حتى كأنها حبل الوريد الأقرب إلينا ..

نخون أنفسنا حين نقول إننا يمكن أن نكون بدونها عرباً وكفى ، لكن أوهامنا تخدعنا حين يفضحنا هوانا المصري خارجاً عنا دون إرادتنا ، وصادراً منا في عبق كلماتنا.

لعل هذا بعض ما اكتشفته في تجربتي مع كتابة (مرايا الأزمنة) الكتاب الذي لا أراه سوى بعض نبض مصر الذي جرى في عروقي، وجداول ضوئها التي انهمرت بها أصابعي ، بل صدى مصر في بعض ما تعلمته على يد اساتذتي المصريين منذ أول يوم في أول فصل دراسي وما إزال أتعلمه حتى بعد عقود من الجامعة.

لن أبوح بما لا يباح إذا قلت إن زيارة مصر  كانت عندنا نحن اليمنيين علامة على بلوغ أحدنا سن الرشد ، بل ان اليمني لا يخجل من الاعتراف بأنه لم يؤد فريضة الحج بعد، في البلد الأقرب جغرافيا إليه، لكنه يشعر بالخجل منك إذا علمت أنه لم يزر بعد مصر الأَبْعد مسافة منه.

صحيح أنني تأملت في (مرايا الأزمنة) مدناً شتى في شرق الأرض وغربها إلاَّ أن القاهرة هي بوابتي إلى كل مدن العالم التي رأيت ، وكانت مصر والمصريين معي ومن حولي هم أحب عبادٍ رأيتهم وأروع من أي بلادٍ زرتها ، فحيث يممت وجهي كان المصريون أمامي دائماً.
في تغريبتي اليابانية الصعبة مثلاً كان مراسل جريدة الأهرام هو الصحفي العربي الوحيد في أقاصي الأرض الذي استضافني في طوكيو ، هذه المدينة غير المنفتحة حينذاك على الأجانب ، وكذلك كان مراسلوا ومراسلات وكالة أنباء الشرق الأوسط الذين سبقوني إلى مجاهل افريقيا هم بمثابة المرشد المعين على مخاطر العمل والعيش في وسط وغرب هذه القارة، ولعل من نافلة القول أن المصريين كانوا هم حداة غربتي ورفاق تجربتي ومهامي المهنية في آسيا والغرب الأوروبي كما سيقرأ في ثنايا كتابي الذي احتفلت مساء الأمس في قلب القاهرة مع نخبة من مثقفين مصريين ويمنيين وعرب آخرين بمناسبة إعادة طبعه وإصداره في مصر .

لطالما اعتقدت خلال مغامرتي في كتابة هذا النص الطويل المتوتر انطلاقاً من القاهرة التي فتحت عينيَّ على عالم الكتابة أننا كعربٍ نحب مصر لأننا نحتاجها، لكن ما صرت متيقناً منه بعد ذلك أننا، في الحقيقة، نحتاج مصر لأننا نحبها ، بل تأكدت في زيارتي الأخيرة للقاهرة أننا نحب مصر للأمرين معاً، وأكثر من ذلك اننا نحب ونحتاج أن تكون مصر بخير حتى نظل بها ومعها بخير  .

إننا (الحقيقة) الكاملة المُطْلَقَة بالنسبة لي ولجيلٍ عربي عريضٍ، التي لا تقبل التأويل، ولا يُغَيِّر منها شيئٌ ، لا تبدلُ الأزمنة ولا تقلبات الطبيعة ولا اختلاف انظمة الحكم ولا ضوائق العيش.

وبالنسبة إلى بعض العرب مثلي الذين يعانون من النزاعات وعدم الاستقرار في بلدانهم فإن مصر لم تعد بلدهم الثاني، الذي لا يميز بينهم على أي أساس أو معيار  ديني مذهبي أو سياسي اجتماعي، بل أصبحت  الأول مُقدماً في هذه الحالة على البلد الأصلي الذي يواجه فيه الكثير من أبنائه العديد من أشكال التمييز والتضييق والاضطهاد.

بل إننا حين كنا نقول أن لكل عربي وطنَيْن أحدهما مصر ، صرنا نقول اليوم أمام بعض الحالات التي تتعذر فيها على أحدنا العودة إلى بلده إن مصر باتت هي البلد الأول والأوحد لأي عربي حتى لأولئك الذين يقيم بعضهم في ( رغد) باردٍ في بلدان المهجر والشتات الأخرى غير العربية.

ليس هذا لأن مصر بلدٌ (مثاليٌ) بالمطلق، كلا ، ولكن لأنها بلد لا (مثيل) له عند العربي ككاتب هذه السطور .

كثيراً ما أوهم العربي نفسه أن الهواء والماء في غير أرض الكنانة أنقى وأكثر صفاءً، لكنه سرعان ما يكتشف أنه لا هواء تمتلئ به رئتاه مثل هوائها المعفر بالغبار ، ولا ماء يجري كالدم في عروقه نابضاً بالحياة كمياه نيلها..

إذاً فأنا عائدٌ من القاهرة  كملكٍ مهزوم حاصره دفؤها فجأة بعد سنوات طوال من القشعريرة في مدن الثلج والصقيع ، ومثل أسدٍ جريحِ نازلته حمامات القاهرة بريشها .. أعود من (القاهرة) الكاسرة لكل الحدود والحواجز والمسافات بيني وبينها إلى لندن مدينة سكناي وعملي على الجانب الآخر من العالم، تاركاً روحي هائمة حائمة في سماوات مصر ، وقلبي متوزعاً هناك بين أحبتي من أبنائها وبناتها ، وأهل بلدي المقيمين والنازحين اليها ، المسافرين والعابرين منها ، الآتين والرائحين ، أحمل في حقائبي من كتب الزملاء والأصدقاء أضعاف ماحملته من نسخ الكتابين الأخيرين اللذين أصدرتهما خلال ضمن معرض القاهرة الدولي للكتاب، رغم طلبات أصدقائي في أوروبا للحصول على تلك النسخ.
أغادر القاهرة هذه المرة مكرهاً لا بطل بعد ان حمَّلتني من الحب ما لا يُحتمل ومن الشوق إليها ما لا أطيق.
* من صفحته على فيس بوك.

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *