*د. حاتم الصكر

الاحتفاء بميلاد نازك المائة متعدد الدلالات..حين تُمجّد الشاعرة يكون التمجيد حتماً، لفعل الشعر في الحياة، ونفوذه الأبدي في الوعي .وحاجتنا إليه مهما بدا أن بدائله الممكنة قد غلبت مكانته وأهميته.
هاهي نازك منبعثة من جديد: يحتفي بها الوطن..أرض ولادتها ووعيها ونشأتها وانكساراتها بالضرورة. ثم تتمدد لتحظى باحتفاء تذكاري متعدد في مدن عربية مشرقا ومغربا.. ندوة نقدية عن مئويتها مطلع الشهر القادم في معرض الرباط الدولي للكتاب.سأكون سعيداً بمشاركتي فيها مع نقاد وباحثين عرب، الاحتفاء متواصل بما يليق بمشروع الذهاب بالشعر إلى الحياة، حيث تتجدد الأشكال وتتعاقب الفتوحات النصية والجمالية، وتزداد الحياة غنى بظلال النصوص وأفيائها العذية.
لا يغفل التاريخ الحافل للشعرية العربية عن نازك ،ولا عن دورها في التجديد والتمهيد لمرحلة التحديث اللاحقة. إنها تمثل حلم التجديد واندفاعته، وكذلك أزماته وانتكاساته الذاتية..
لقد خلدت بما ابتكرت واجتهدت .وعبرت حدوداً كثيرة: مجنمعية وثقافية وفنية ، واجتازت حدود القصيدة كمبنى إلى الوعي بها ،رسالة في التغيير،والبحث عن سبل لا تستجيب للشائع والمتجمد في الذاكرة ،وتراكمات النسخ والتقليد ..
تحية لها ،ولمشروع التجديد والتحديث، أعيد نشر مقالتي عن مئويتها التي ظهرت في عدد مجلة الشارقة الثقافية – مايو-أيار-2023..
وتحية لمن اجتمع حول ذكراها ومنجزها من الشعراء والكتاب والقراء

.مئوية نازك الملائكة
الشاعرة في تجربة التجديد والحرية

تؤرخ الشاعرة الراحلة نازك الملائكة لمولدها يوم 8/23/ 1923 .والتقطت الأوساط الثقافية ذلك التاريخ، لتتوقف عند المئوية التي تشهدها ولادة نازك التي ارتبط اسمها بحركة التجديد الشعري منذ بداياتها، أو ماعرف نقدياً بجيل الرواد الأربعيني، ووصفتْ نازك شعر ذلك الجيل بأنه ( الشعر الحر) احتكاماً إلى التغييرات الفنية والجمالية التي أنجزتها، أو وعدتْ بها نظرياً.
يختلف على نازك مؤرخو الأدب الحديث ونقاده بسبب نشر بدر شاكر السياب قصيدة تسبق ( الكوليرا) التي تعدها نازك الملائكة القصيدة الحرة الأولى ، متوقعة لها كما تقول في مقال بعنوان(لمحات من سيرة حياتي وثقافتي)،أن ( تغيّر خريطة الشعر العربي).
وإذا ما كان لنازك هذا النزوع التجديدي المتحمس ، فإن منجزها الأكثر أثراً ،هو إصدارها لأول كتاب نقدي شامل ،يتناول مبررات التجديد ودوافعه ومؤثراته ومقوماته الفنية والجمالية ، وما أتى به المقترح من إضافة إيقاعية . وأعني كتابها ( قضايا الشعر المعاصر) الذي صدر عام 1962 ، لكن دراساته قد كتبت قبل ذلك بسنوات .
لقد راهنت نازك على أنها ستُطلق الشعر العربي من المحددات والقيود التي رضيت ببعضها، بعد ترتيب هيكل القصيدة العربية بشكل فني خاص ،متخلصة من الطول الثابت للبيت الشعري ،ومن القوافي الموحدة في القصيدة. وذلك يسمح بملاحقة الشكل لضرورات التعبير، دون الثبات عند هندسة هيكلية ومضمونية واحدة، تحاصرها البحور بصرامة نظامها وإيقاعاتها .
لقد توفرت لنازك لوازم ثقافية كثيرة أهّلتها للقيام بهذا الدور شعراً ونقداً. فبعد تخرجها من الجامعة دارسةً للغة العربية وآدابها بتفوق، عمدت إلى دراسة الموسيقى دراسة منتظمة، وعكفت خاصة على تعلم العزف على آلة العود.فزاد تعمقها في الدراسات الإيقاعية وعلاقة الشعر بالموسيقى. وربما كان ذلك في بعض التأويلات، سبباً في تراجعها عن كثير من قناعاتها التي ضمتها مقدمتها لديوانها (شظايا ورماد) الذي صدر عام 1949،ما أثارردود أفعال ضد المشروع و الحيثيات التي ساقتها.
ولاقت رفضاً من الذين رأوا فيه ما يأباه الشعربسبب (شكله الجديد)كما تقول.وتلك إشارات تعلل ما ستؤول إليه قصيدة نازك من بعد حيث تمسكها الشديد بالتفعيلات وضرورة التقفية، وعدم الخروج على نظام البيت الشعري، وما يمكن وصفه بالنكوص عن المشروع وحماستها فيه .تلك الحماسة التي جعلتها تصف الموضوع بأنه أتفه عناصر القصيدة ،وبأن القافية الموحدة ( تضفي على القصيدة لوناً رتيباً يمل السامع.. فضلا عن أنها تثير الشعور بالتكلف) .وهذا ما نقضته لاحقاً.
وبالعودة إلى اللوازم التي تهيأت لنازك وأهلتها للتجديد، نذكر تعلمها الذاتي للغة الإنجليزية ثم دراستها في معهد متخصص ببغداد قبل أن تواصل دراستها للماجستير في أمريكا ، مازاد من تعمقها في آداب اللغة الإنجليزية، ولاسيما الشعر الذي ترجمت منه بعض القصائد الرومانسية خاصة، ونقلتها بقالب شعري.
لقد توافقت دراستها تلك مع ميولها الرومانسية التي اتصفت بها شخصيتها التي تميل للعزلة، والتفرغ للقراءة والكتابة.
ومثل شأن الرومانسين في قصائدهم، كانت نازك تركز على تصوير العواطف والأحاسيس، وما حول الشاعرة من أجواء واطياف، وما تمر به من تجارب، وما تحلم به وتتمناه.
لقد أطلفت على ديوانها الأول عنواناً ذكي الدلالة هو(عاشقة الليل).الذي كانت تكثر من ذكره في قصائدها، أو تضعه إطاراً لتداعياتها ومشاعرها.
وفي فترة عكوفها على التفكير الوجودي والتساؤل عن اللغز الإنساني، كتبت أهم قصيدة في هذا الباب وهي(أنا). التي يرينا مقطعها الأول ذلك الهم الفلسفي الذي سيطر على نازك، وزاحم هفوها الرومانسي، فاختلطا معاً.
الليل يسأل من أنا
أنا سرُّه القلق العميق الأسود
أنا صمته المتمرد
قنّعت كنهي بالسكون
ولففتُ قلبي بالظنون
وبقيت ساهمةً هنا
أرنو وتسألني االقرون
أنا من أكون؟


ويلاحظ النقاد ميل نازك للتنظيم الهيكلي لشعرها.واستعارتها لأشكال غربية في النظام المقطعي .
إن توزيع الأبيات هنا له دلالة في انتظام المعاني و المقاطع ونظام التقفية.ما خلق إيقاعاً خاصاً. في مفتتح كل مقطع ثمة سؤال. وعبر ستة أبيات تسترسل في الجواب.ثم تجترح النتيجة التي تحصل عليها، وتجعلها تبحث عن أناها وسط تيه العالم.
كان قيام فتاة شابّة كنازك بتلك التجربة في وقت مبكر، يدل على جانب ثان من شخصيتها هو إصرارها وإرادتها، وشجاعتها أيضاً في ما أسمته التحدي لما تواجهه بسبب قصائدها الحرة.وتسلحها بأبرز ما يمكن للشاعر من ثقافة .فقد واصلت تعلمها باستمرار دون توقف.فانتظمت في قسم التمثيل بمعهد الفنون لتتعرف على فن الإلقاء، وما يصاحبه من مزايا صوتية ومعنوية تتصل بمراعاة المعاني، والخصائص الصوتية للحروف.واطلعت على تاريخ المسرح ،ومزايا الدراما في الشعر المسرحي في العالم.
وتتحدث نازك بزهو عن دراستها الشخصية للغة اللاتينية وإجادتها لها، وقراءة بعض
الأعمال والأناشيد القديمة وحفظها.وبجانب ذلك تعلمت الفرنسية، وقرأت بعض آدابها.ويزيد ذلك دون شك من مرجعياتها الثقافية والشعرية التي تعززت بالتعمق في اللغة الإنجليزية التي تأثرت كثيراً بشعرائها .واستوعبت التيارات الشعرية في الغرب والاتجاهات في الكتابة ، ما زودها بكثير من القدرة على تضمين شعرها الأساطير والحكايات الرمزية.وتنبهت إلى أثر الفكرة في القصيدة ، قجاءت قصائدها التالية للمرحلة الرومانسية متسمة بالتساؤلات عن الوجود، ومصير الإنسان والبشرية.
وسرّت نازك بامتدادها العربي ، وكان لها ما أرادت من تأثير في الشعرية العربية في مرحلتها التجديدية ، فانتقلت دعوتها إلى أقطار عربية كثيرة ،وتابعها في منهجها شعراء متعددون تزايدوا بمرور الزمن.ولا شك في أن تواصلها مع منابر النشر في بيروت والقاهرة ،كان سبباً في تلك المعرفة المتزايدة مع الشعراء العرب.
كان التجديد هدف نازك. ولكن بشرطٍ بدا عسير التحقق مع الاندفاع الذي اتسمت به موجة التجديد الشعري.فلم تجد شروطها للكتابة متوفرة في عديد النصوص التي تطالعها تحت مسماها المفضل( الشعر الحر) .وزاد اهتمامها بالإيقاع، فارتدت إلى بحور الخليل تقايس ضروراتها ونظامها الداخلي، وتقيس به الخروج الذي لاحظته في الكتابة الشعرية، كالتدوير السطري واستمرار الكتابة دون التزام بالبيت، بل السطر المتصل.وعدّت ذلك عيباً فنياً.مع أنها اعترفت بأثر قصائد البند في توجهها للتجديد والشعر الحر.
إن الاحتفاء بمئوية مولد نازك الملائكة يعيد للذاكرة ميلاد قصيدتها الحرة الأولى وكتابها النقدي الأول،.ثم ما مرت به من منعطفات وتحولات قابلة للدراسة والبحث عن أسبابها.فهي تحولات لم تكن متوقعة لمن قرأ مقدمة (شظايا ورماد).لكن الدرس النقدي يبحث في أسباب أخرى، تعود إلى تغلب ثقافة نازك الأولى، ولتكوين أسرتها وثقافتها.وما ضمت من شعراء وشاعرات، اتسمت تجاربهم وتجاربهن بالتقليد والمحافظة.
لنازك اليوم ذلك التاريخ الشعري ،والتنبيه على ضرورة التجديد.والمضي في المشروع عبر من تلاها أو عاصرها من الشعراء في العراق والأقطار العربية. وما يجري عليه من تطوير يُدخله في مرحلة التحديث المستمرة حتى أيامنا.
ولنتاج نازك الفكري في أعوامها الأخيرة مكانة، يتفحصها المختصون .كونها دراسات اجتماعية وسياسية، تعكس وجهة نظرنازك وأفكارها حول الأحداث والقضايا التي عاشتها عبر سنيّ حياتها..وتحولها لكتابة النثر نقداً ومقالات،تتذكر منها خاصة، ما قدمته حول أوضاع المرأة العربية، وضرورة تقدمها وتعليمها .مستكملة بذلك منظومة شعرية وفكرية وثقافية وجّهت سير حياتها وسيرتها الأدبية الحافلة.

*أكاديمي وناقد وشاعر من العراق يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *